(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)،
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين،
قال تعالى
فاتقوا الله تعالى واحذروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله يخلق ما يشاء ويختار، بحسب ما تقتضيه حكمته جل وعلا، ففضَّل بعض الملائكة على بعض، وفضَّل بعض الكتب على بعض، وفضَّل بعض النبيين على بعض، وفضَّل بعض الأمكنة على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض، ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على باقي الشهور، وهذا من رحمة الله بعباده، أن هيأ لهم مواسم الخيرات، تُضاعف فيها الحسنات، وتُــــكفَّر فيها السيئات، وترفع فيها درجات المؤمن في الجنات.
عباد الله، تقدم الكلام في الخطبة الماضية عن خصائص رمضان، وأن له ثلاثون خصيصة، وذكرنا منها خمسة عشر خصيصة، وفي هذه الجمعة نذكر الخمسة عشر الأخرى بحول الله، فمن خصائصه خصيصتان، وهما أنه تُفَتَّح فيه أبواب الجنان، وتُغلَّق أبواب النيران،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِين.
ومن خصائص شهر رمضان أنه شهر تُصفَّدُ فيه الشياطين وتُسَلسَل، ودليله الحديث المتقدم، وتصفيد الشياطين هو توثيقها وربطها في سلاسل بحيث لا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غير رمضان، بل ينحسر شرهم، وقيل إن التصفيد خاص بـمَـــرَدتِـهم أي طُغاتهم.
ومن خصائص شهر رمضان أنه شهر يستحب فيه الإكثار من قراءة القرآن، وقد كان من هدي السلف رضوان الله عليهم الحرص على ختم القرآن في رمضان، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يدارسُه جبريل القرآن في كل عام في رمضان.
ومن خصائص الصوم أنه يشفع للعبد يوم القيامة في رفعة درجاته وتكفير سيئاته،
فعن عبــد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: (أَيْ ربِّ، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشــفِّــــعْــني فيه). ويقول القرآن: (منعته النوم بالليل، فشفِّعني فيه)، فيُــــشفَّعان.
ومن خصائص الصوم أن خَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ.
ومن خصائص الصوم أن الله جعل للصائم فرحتين؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ.
ومن خصائص شهر رمضان أنه أُنزل فيه القرآن،
قال تعالى
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)
وكان نزوله في ليلة القدر منه،
قال تعالى
(إنا أنزلناه في ليلة القدر)
وهي ليلة عظيمة الشأن، نزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا بعد ذلك على النبي (صلى الله عليه وسلم) بحسب الأحداث.
وليلة القدر سُـمِّيت بذلك لِعِظم قَدرها، كما يقال (فلان عظيم القَدر) فتكون إضافة الليلة إليه من باب إضافة الشيء إلى صفته.
وقيل إنها سميت بذلك لأنه يُقَـــدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، أي التقدير السنوي،
لقوله تعالى
(فيها يفرق كل أمر حكيم).
قال ابن القيم: (وهذا هو الصحيح).
وقد وصف الله ليلة القدر بأنها مباركة، قال تعالى في نزول القرآن
(إنا أنزلناه في ليلة مباركة).
ومن خصائص رمضان أن من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، أي أن من أحياها بالصلاة، إيمانا بما أعد الله تعالى من الثواب للقائمين في هذه الليلة العظيمة، واحتساباً للأجر وطلب الثواب؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه.
ومن خصائص رمضان أن قيام ليلة القدر خير من قيام ألف شهر، أي أن الثواب المترتب على إحياءها بالصلاة يزيد في الثواب على عبادة ثلاث وثمانين سنة،
قال تعالى
(ليلة القدر خير من ألف شهر).
وقال (صلى الله عليه وسلم):
أتاكُم رَمضان، شَهرٌ مبارَك، فرَضَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتُــــغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم.
قال ابن سعدي رحمه الله: وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ تبارك وتعالى على هذه الأمة بِلَـيلَةٍ يكون العمل فيها يقابِــل ويزيد على ألف شهر، عُمرُ رجل مُــــعَـــمَّــرٌ عمرًا طويلًا، نَـــيِّــــفًا وثمانين سنة. انتهى باختصار يسير.
ومن خصائص رمضان أنه شهر يستحب الاعتكاف فيه في العشر الأواخر منه، والاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
وكان سبب اعتكافه صلى الله عليه وسلم هو طلب ليلة القدر وتحريها،
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني اعتكفت العشر الأُوَل التمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصوم رمضان على الوجه الذي يرضيه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من خصائص شهر رمضان ما شرعه الله في خاتمة الشهر من زكاة الفطر، طُهرة للصائم مما وقع في صومه من اللَّغو والرفث، والرفث هو الفاحش من الكلام،
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:
فرضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِين.
ومن خصائص شهر رمضان أن الله شرع بعده شعيرة العِــيد، فقد شرع الله للمسلمين عيدين بعد أداء شعيرتين عظيمتين، وهما صوم رمضان وحج البيت، فعيدُ الفِطر يأتي بعدَ تمام صيام رمضان، فإذا أتم المسلمون صيامَهم أعتَقَهم من النارِ، وتكون صدقةُ الفطرِ وصلاةُ العيدِ شُكرًا لذلك الفضل، فيجتمع المسلمون فيه اجتماعا أعظم من اجتماع يوم الجمعة، فتظهر شوكتهم، ويظهر اعتزازهم بهذه الشعيرة، وتُعلم كثرتهم، ولذلك استُحبَّ خروجُ الجميع، حتى الصِّبيانِ والنِّساءِ، بل حتى الحُيَّضِ يخرجن ويحضرن دعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، وفي العيد يظهر الفرحَ والسرورَ بتمام نِعمة الله بختم الشهر، وحلول العيد، وكمالِ رحمته.
كما شرَعَ الله للمسلمين عِيدَ الأضحى عند تمامِ حجِّهم بإدراكِ الوقوفِ بعرفةَ، وهو يومُ العِتقِ من النارِ، ولا يَحصُلُ العتقُ من النارِ والمغفرةُ للذنوبِ والأوزارِ في يومٍ من أيَّامٍ السَّنة أكثرَ منه، فجعَلَ الله عقِبَ ذلك عيدًا، بل هو العيدُ الأكبر.
ومن خصائص شهر رمضان التكبير عند انقضائه، ويبدأ التكبير بغروب شمس آخر يوم من رمضان ودخول ليلة العيد حتى انقضاء صلاة العيد،
قال اللهُ تعالى
(وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ولعلكم تشكرون)،
أي تكملون عدة رمضان ثلاثين يوما، وتكبرون الله عند انقضائه، وتشكرونه عند تمامه على توفيقه وتسهيله وإعانته لأداء هذه العبادة، وعلى بلوغ نهاية الشهر، وصفة التكبير (الله أكبر، الله أكبر، لا إلـٰه إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)، فيكبر الرجال والنساء في البيوت والأسواق، يجهر الرجال، ويخفت النساء بأصواتهن إذا كُـنَّ بحضرة رجال، فعن أمِّ عَطيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: كنَّا نُؤمَر أنْ نَخرُجَ يومَ العيدِ، حتى نُخرِجَ البكرَ مِن خِدْرِها (أي بيتها)، وحتَّى نُخرِجَ الحُيَّضَ، فيكُــنَّ خلْفَ الناسِ، فيُكبِّرْنَ بتكبيرِهم، ويَدْعون بدُعائِهم، يرجونَ بَركةَ ذلِك اليومِ وطُهرتَه.
وفي صلاة العيد يكبر الإمام تكبيرة الإحرام ثم يكبر ستا، ثم إذا قام للركعة الثانية يكبر التكبيرة الانتقالية ثم يكبر خمسا.
والتكبير في العيدين له حكمة عظيمة، وهي التذكير بتعظيم الله تعالى، وتعظيم حقوقه، وأن الله أكبر من كل شيء، وأنه الكبير في ذاته والكبير في صفاته، وأنه الكبير في حقوقه على المسلمين، والتي منها قيامهم بصيام رمضان وحج البيت، فاجتمع المسلمون على أدائها، ثم اجتمعوا للعيدين بعدهما، وظهرت شوكتهم أمام عدوهم الإنسي والجني.
ومن خصائص شهر رمضان أن من صامه ثم صام بعده ست أيام من شوال كان كمن صام السنة كلها، لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقد صام فاعل ذلك ست وثلاثون يوما، فعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر.
وبعد عباد الله، فهذه ثلاثون خصيصة من خصائص شهر رمضان، ينبغي للمسلم أن يعلمها ويستحضرها خلال صومه، لتعينه على الصوم إيمانا واحتسابا.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال
(إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.