الخطبة الأولى

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا الله ولا تعصوه، واعلموا أن الإيمان بالله تعالى يتضمن أربعة أمور؛ الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، والثاني: الإيمان بربوبيته، والثالث: الإيمان بألوهيته، والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته، وفي هذه الخطبة سنفرد الكلام على وجود الله.

فأما الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى فقد دلت عليه الفطرة والعقل والشرع والحس‏.‏ 

أما دلالة الفطرة على وجوده تعالى فإن كل مخلوق قد فُطِر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ومصداق هذا من كتاب الله قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم

﴿قالوا بلى شهدنا﴾،

فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على وجود الله، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه طارئ، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم)‏: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُـمجِّسانه. 

ولهذا نجد أن الإنسان بطبيعته وفطرته وبَدَهيته إذا أصابه الضُّر قال (يا الله)، وقد أقر المشركون في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) بوجود الله تعالى، كما قال تعالى عنهم

﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾

والآيات في هذا الباب كثيرة.

عباد الله، وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى‏‏ فبيانها أن هذه المخلوقات سابِقها ولاحِقها لابد لها من خالقٍ أوجدها، إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسِها، لأن العدم لم يَـخلُق نفسه، فإنه قبلَ وجودِه معدوم، فكيف يكون خالقًا‏ لغيره من الموجودات؟‏! 

كذلك فإن وجود تلك المخلوقات صدفة‏ بغير مُوجِد ممتنع لسببين؛ الأول: أن كل حادِثٍ لابد له من مُـحْدِث، دلَّ على ذلك العقل والشرع،

قال تعالى

﴿أم خُلِقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾

والثاني: أن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومُسبِّـباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض، بلا اضطراب ولا تصادم؛ يمنع منعًا باتًا أن يكون وجودها صدفةً من غير مُوجِد، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره‏؟‏‏!‏ استمع إلى قول الله تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون. 

وسُئل أعرابي فقيل له: بم عرفت ربك؟ فقال: الـبَعرةُ تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، والأثر يدل على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج ، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟

عباد الله، ومن عجائب خلق الله البعوضة، فقد أودع الله فيها على صِغر خِلقتها من الحِكم الشيء الكثير، فأودع الله فيها قوة الحافظة والفكر، وحاسة اللمس والبصر والشم، ومنفذ الغذاء، وأودع فيها جوفا وعروقا ومخا وعظاما، فسبحان من قدر فهدى، ولم يترك شيئا سدى.

قال أحد الشعراء مبتهلا:

يا من يرى مدَّ البعوضِ جناحها               في ظلمةِ الليلِ البهيمِ  الأليلِ 

ويرى مناطَ  عروقِها في نـَحرِها                 والـمُخَّ من تلك العظامِ النُّــحَّلِ 

ويرى خرير الدم في أوداجِها                    متنقِّلا من مفصلٍ في مفصلِ

ويرى وصول غِذى الجنين ببطنِها               في ظلمةِ الأحشا بغير تَــمَـــقُّلِ 

ويرى مكان الوطءِ من أقدامِها                   في سيرها وحثيثها الـمستعجلِ

ويرى ويسمعُ حِسَّ ما هو دونَـها                 في قاع بحرٍ مظلمٍ متهوِّلِ 

امنُن علي بتوبة تمحو بها                        ما كان مني في الزمانِ الأولِ 

فالحاصل أنه إذا لم يمكن أن توجِد هذه المخلوقات نفسَها بنفسها، ولا أن توجَد صدفة؛ تعين أن يكون لها موجِد، وهو الله رب العالمين‏.‏ 

عباد الله، وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال

﴿أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾

يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون لهم خالق، وهو الله تبارك وتعالى.

ولهذا لما سمع جبير بن مُطعِم رضي الله عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات ‏

﴿‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾، ‏

وكان جبير يومئذ مشركًا؛ قال: ‏كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي. 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الشرع قد دل على وجود الله تعالى‏؛ فالكتب السماوية كلها تنطق بذلك، كما أن ما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وكذا ما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به‏.‏ وأيضا فإن ائتلاف القرآن وعدم تناقضه وتصديق بعضِه بعضا؛ يدل دلالة قاطعة على أنه من رب حكيم عليم،

قال تعالى:

﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏﴾

فهذا دليل أيضا على وجود من تكلم بالقرآن وهو الله تعالى. 

عباد الله، وأما دلالة الحس على وجود الله فمن وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين وغوث المكروبين ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، إذ أن إجابة الدعاء تدل على أن هناك ربا سـمع دعاء من دعاه فأجابه،

قال الله تعالى‏:

﴿‏وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾‏،

وقال تعالى:

﴿‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه

‏أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وُجاه المنبر، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قائما فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا. قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قَـــزَعَةٍ  ولا شيئا، وما بيننا وبين سَلْع  من بيتٍ ولا دار، قال: فطلعت من ورائه  سحابة مثل الـتُّــرسِ ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس سَــبْتاً . ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم يخطب، فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام  والجبال والظِّـراب  والأودية ومنابت الشجر. قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس.  وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا لمن صدق في لجوئه إلى الله تعالى وأتى بأسباب الإجابة‏. ‏

عباد الله، والوجه الثاني على دلالة الحس على وجود الله‏:‏ أن آيات الأنبياء التي تسمى ‏بالمعجزات‏ ويشاهدها الناس أو يسمعون بها؛ برهان قاطع على وجود مرسلِهم، وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى تأييدًا لرسله ونصرًا لهم‏.‏ 

مثال ذلك‏:‏ آية موسى (عليه السلام) حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقًا يابسًا، والماء بينها كالجبال،

قال الله تعالى:

‏ ﴿‏فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾.

أيها المسلمون، ولما كان الإقرار بوجود الله أمرا فطريا دلت عليه الفطرة والحس؛ قالت الرسل لأقوامهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض. 

فالحاصل من هذا كله أن الإيمان بوجود الله مركوز في الـفِطر، ومعلوم بالعقل والحس والشرع، لا ينكره إلا ملحد قد زاغ قلبه، وهم قليل في الناس بحمد الله.

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال:

(إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم. 

اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بشر فاشغَله في نفسه، ورد كيده في نحره. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.