(وإن لنفسك عليك حقا)
الناقض الثالث: (من اعتقد أن غير هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) خير من هديه فقد كفر، ومن اعتقد أن حكم غير الله خير من حكم الله، كالذين يفضلون حكم الطواغيت والقوانين الوضعية على حكم الله)
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي وأكمله
• عباد الله، اتقوا الله تعالى وعظّموه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من لوازم شهادة أن محمدا رسول الله؛ الإيمان بأن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي وأكمله، والهدي في اللغة هو الطريقة والمسلك، وفي الشرع؛ الطريق والمنهج الذي سار عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) في الاعتقاد والعبادات والمعاملات والأخلاق والقضاء والسياسة وغيرها مما ورد فيه نص في القرآن أو السنة النبوية.
• عباد الله، وهدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي، لأنه تلقاه من لدن الله جل وعز، وهو شامل لجميع جوانب الحياة التعبدية والأخلاقية والسياسية والقضائية والاجتماعية والتعليمية والتربوية وغيرها.
• والدليل على أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أحسن هدي قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في خطبه: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب الاعتقاد
• عباد الله، إن المستقرئ لهدي النبي (صلى الله عليه وسلم) يجد أن هديه أفضل هدي، ففي جانب الاعتقاد، نجد أن العقيدة الإسلامية التي تمثلها النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلمها الناس عقيدة شاملة لكل ما يحتاجه الإنسان في باب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، تجدد عقائد الأنبياء قبله، موافقة للعقل الصحيح، وتنهى عن الغلو والجفاء.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب العبادة
• وفي باب العبادات كان هديه (صلى الله عليه وسلم) أكمل هدي، فلا إفراط ولا تفريط، ولا رهبانية ولا كسل، قال عليه الصلاة والسلام: إن هذا الدين يسر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا قاربوا وأبشروا.
وقال عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة وكان يريد أن يُـــنهِك نفسه في العبادة:
ولما قال بعض الناس إنه لا يأكل اللحم، وقال بعضهم لا أتزوج النساء، وقال الثالث: أصوم ولا أفطر، وقال الرابع: أقوم الليل ولا أنام؛ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنا فآكل اللحم، وأتزوج النساء، وأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب الأخلاق
• وفي باب الأخلاق، نجد أن خلق النبي (صلى الله عليه وسلم) أكملُ خلق، ولا غرابة في هذا، فإن الذي تولى تربيته وتعليمه هو الله تعالى، وهو الذي شهد له بحسن خلقه، قال الله له
وإنك لعلى خلق عظيم.
ومن تأمل خلق النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أهله وأصحابه وجيرانه؛ علِم ذلك، فقد كان لا يُرى إلا متبسما، وكان يعفو ويصفح، حتى عفا عن اليهودية التي وضعت له السم في طعامه ومات على إثرها، وكان رحيما بالناس، حتى مع أعدائه في الحرب والغزو والجهاد، فقد كان ينهى عن قتل من لم يشارك في الحرب، من الشيوخ والنساء والأطفال، وينهى عن نَـهب المال، وينهى عن الغُــلول، وهو أخذ المال قبل تقسيم الغنائم، وكان يقسم الغنائم كما أمر الله، وينهى عن الـمُثلة بالمقتول، وهو تشويهه والانتقام منه وهو ميت، وكان ينهى عن الغدر، وكان يَـمُـنُّ على الأسرى بالعِــــتق، ويقتل بعضهم، ويُفادي بعضَهم بالمال، ويفادي بعضَهم بأسرى المسلمين، يفعل ذلك كله بحسب المصلحة.
• عباد الله، إن خلقه الجميل (صلى الله عليه وسلم) قد أتى ذكره في التوراة والإنجيل، فعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحِــرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا (لا إلـٰه إلا الله)، ويُفتح بها أعين عمي وآذان صم، وقلوب غلف.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب المعاملات
• وفي باب المعاملات التجارية كان هديه (صلى الله عليه وسلم) شاملا لجميع أنواع المعاملات من بيع وشراء وإجار ووكالة ومداينة وغيرها، وكذلك كان كاملا في بيان البيوع المضرة بالاقتصاد، كالربا والغرر والرشوة وغير ذلك، وقد عقد ابن القيم رحمه الله فصولا في كتابه «زاد المعاد» في هديه في البيوع قريبا من ثمانين صفحة.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب السياسة
• وفي جانب السياسة كان هديه أكمل هدي، فقد كان يشاور ذوي التخصص والأمانة في الأمور الدنيوية، وربما شاور بعض نسائه، كما حصل له يوم بدر ويوم الخندق ويوم الحديبية وغيرها، مما مكنه من معرفة الصواب، وترتب عليه النجاح والنصر، وكان يعقد الأمان والصلح مع الكفار، ويحسن معاملة رسلِهم، وكان يُجير من جاءه من الكفار، إلى أن يرده إلى مأمنه، وكان يفي بالعهد الذي يبرمه معهم، وكان معروفا ببراءته التامة من الغدر والخيانة، وإن حصلت الخيانة من الكفار، وكان يعفو عمن ظلمه في الحروب، ولما فتح مكة وتمكن من أهلها، وصارت القوة والسلطة بيده؛ عفا عنهم جميعا، مع أنهم هم الذين حاربوه وأخرجوه منها، وفعلوا به وبأصحابه ما فعلوا، فعفى عنهم جميعا، وقد كان بإمكانه الانتقام لنفسه، بدون أن يكون عليه لوم أو مؤاخذة.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب القضاء
• وفي باب القضاء كان هديه (صلى الله عليه وسلم) أعدلُ هدي وأتمه، وقد عقد ابن القيم رحمه الله فصولا في كتابه «زاد المعاد في هدي خير العباد» في هديه في القضاء في نحو من خمسمائة صفحة.
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل هدي في جانب الطب
• وفي باب الطب كان هديه (صلى الله عليه وسلم) أكمل هدي وأشمله، وقد عقد ابن القيم رحمه الله فصولا في كتابه «زاد المعاد» في بيان هديه في علاج القلوب والأبدان في نحو من أربعمائة صفحة.
• عباد الله، وقد شهد جمع من عقلاء الكفار للنبي (صلى الله عليه وسلم) بحسن هديه، وأسلم منهم جموع غفيرة، لأنهم علموا أن هذا الهدي الشامل لا يقدر البشر على الإتيان به من عند أنفسهم، إلا من كان نبيا مؤيدا من عند ربه جل وعز.
• وبعد عباد الله، فهذه مقدمة نافعة في بيان أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) هو أكمل هدي وأشمله، من فهمها فقد انفتح له باب حب النبي (صلى الله عليه وسلم) ولزوم هديه.
• بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
تقرير أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) صالح لكل زمان ومكان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) صالح لكل زمان ومكان، ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأنه وحي تلقاه من لدن الله عز وجل، الكامل في علمه، الكامل في حكمته، الكامل في رحمته، الكامل في إرادته الخير بالناس، ثم نقله النبي (صلى الله عليه وسلم) للناس، فهو صراط الله المستقيم، ودينه القويم، الذي رضيه الله لعباده، ولا يرضى سواه.
تقرير أن من اعتقد أن غير الهدي النبوي أفضل من الهدي النبوي فهو كافر، أو أن حكم غير الله خير من حكم الله، كالذين يفضلون حكم الطواغيت والقوانين الوضعية على حكم الله
وبناء على ما تقدم؛ فمن اعتقد أن غير الهدي النبوي أفضل من هدي النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فقد كفر، لأنه طعن في حكمة الله وتشريعه في الحقيقة، كمن يفضل المناهج البشرية كالعلمانية والليبرالية والديموقراطية على الشريعة الإسلامية، أو يعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبـيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببا في تخلف المسلمين، أو أن يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى، أو يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، أو يعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما، فهذا كافر، لأنه بذلك فضل حكم المخلوق على حكم الخالق، ورضي بحكم الجاهلية، ورضي بالطاغوت وفضله على حكم الله ورسوله، ولم يكفر به كما أمره الله بذلك في قوله (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)، واستباح ما حرم الله إجماعا، وكل من استباح ما حرم الله فهو معاند لله، وكافر بإجماع المسلمين.
عباد الله، إن من تولى عن طاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن،
قال تعالى
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا
قال ابن تيمية رحمه الله: فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه؛ فهو من المنافقين وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول (سمعنا وأطعنا)، فالنفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره.
خاتمة الخطبة
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.