(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين،
قال تعالى
فاتقوا الله تعالى واحذروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من رحمة الله بعباده أن هيأ لهم مواسم الخيرات، تُضاعف فيها الأعمال الصالحات، وتُــــكفَّر فيها الأعمال السيئات، وترفع فيها درجات المؤمن في الجنات، وهذا من حكمة الله تعالى، فإن الله سبحانه حكيم في أمره، حكيم في فعله، حكيم في تقديره.
عباد الله، وإن مِن حكمة الله تعالى في أمره أن شرع لهم صيام شهر رمضان، الذي فيه حبس النفس عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
1. وقد شرع الله الصوم لحكمٍ عظيمة ، أعظمها حصول التقوى،
قال سبحانه
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾
فتبين من الآية الكريمة أن الحكمة من مشروعية الصيام هي تحقيق التقوى، والتقوى هي أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، فتتدرب النفس على مراقبة الله تعالى، فيترك الصائم ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.
2. ومن حِكَمِ الصوم أَنَّه وَسِيلَةٌ إلَى شُكْرِ النِّعْم، فالصيام هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وهذه مِنْ أَجَلِّ النِّعــــــــَمِ وَأَعْلاهَا، وَالامْتِنَاعُ عَنْهَا خلال فترة الصوم يُعَرِّفُ الإنسان قَدْرَهَا، لأن النِّعَمَ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ وعُرف قدرُها، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ الصوم عنها عَلَى شكر الله عليها.
3. ومن حِكَمِ الصوم أنه وَسِيلَةٌ إلَى ترك ما حرَّم الله فِعله مِن الـمُــحرمات، لأن الصيام سبب لكسر النفس والحد من أشرها وشَرَهِها، فعندئذ تخضع للحق وتلين للخلق، أما مداومة الشبع والرِّي ومباشرة النساء فإنها تحمل على الأشَر والبطر.
4. ومن حِكَمِ الصوم أنه يعين النفس على التغلب على الشَّهْوَةِ، لأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتْ الشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَاعَتْ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء.
والباءة أي النكاح والتزوج، ومعنى وِجاء أي قاطع للشهوة.
5. ومن حِكَمِ الصوم أنه مُوجِبٌ لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إذَا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ، تذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي غالب الأَوْقَاتِ، وهم الفقراء والمساكين، فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عليهم وَالرَّحْمَةُ بهم، بِالإِحْسَانِ إلَيْهِم، والصدقة عليهم، فيصير الصوم سبباً للعطف على المساكين، وزرع التعاطف في المجتمع.
6. ومن حِكَمِ الصوم أن فيه قَهْرا لِلشَّيْطَانِ، وإضعافا له، فتضعف وسوسته للإنسان، فتقل منه المعاصي، وذلك لأن الشَّيْطَان يَجْرِيَ مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فبالصيام تضيق مجاري الشيطان فيضعُف، ويقل نفوذه، فتنبعث القلوب إلى فعل الخيرات، وترك المعاصي.
7. ومن حِكَمِ الصوم أن فيه تعويدا للمؤمن على الإكثار من الطاعات، وذلك لأن الصائم في الغالب تكثر طاعاته، مثل ذكر الله وقراءة القرآن والصلاة، فيعتاد ذلك في رمضان وبعده.
8. ومن حِكَمِ الصوم أن فيه تزهيدا في الدنيا وشهواتها، وترغيبا فيما عند الله تعالى.
9. ومن حِكَمِ الصوم أن فيه إظهارا لعبادة الله عز وجل في العالم كله، فتجد جميع المسلمين في العالم يجتمعون على صيام هذا الشهر، حتى إن العاصي الذي لا يصوم _ والعياذ بالله _ لا يستطيع أن يجاهر بفطره، بل حتى الكافر لا يستطيع أن يظهر فطره أمام المسلمين، احتراما لهم، ولا شك أن في هذا اعتزازا وإظهارا لعبادة من أهم العبادات.
10. ومن حِكَمِ الصوم حصول فوائد طبية للجسم، فهو ينظم خفقان القلب، ، ويصفي الدم مما يضر من الشحوم والدهون والحموضات، والصوم يريح المعدة، ويجعلها تنعم بفترة راحة من عملية الهضم، كما أن الصوم يحمي الإنسان من البدانة، ويساعده على التخلص من السموم المترسبة في الجسم، وضبط ضغط الدم ومستوى السكر.
وبعد، فهذه عشرُ حِكَمِ من حِكَمِ مشروعية الصيام، فالحمد لله على حكمته فيما شرع من شرائع حسنة.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصوم رمضان على الوجه الذي يرضيه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاعلموا رحمكم الله أنه كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كلما رأى الهلال أن يقول: اللهم أهله علينا باليُمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله.
كان يقول هذا كلما رأى الهلال، رمضان وغيره، فينبغي لنا أن نتأسى به، لاسيما وهو يتضمن طلب المعونة للعمل الصالح.
عباد الله، وإذا أنعم الله على العبد بإدراك الشهر، فينبغي عليه أن يعلم أن الله ما مكَّنه من ذلك عبثا، وإنما ابتلاء، ليعلم هل يقوم بوظائف الشهر من صيام وقيام وإقامة للنفس على الطريق السوي أم لا.
فالجد الجد، والنشاط النشاط في العمل، فما هي إلا أياما معدودات وينقضي رمضان، والحذر الحذر من قُطَّاع الطريق، من أتباع الشهوات، وشياطين الإنس، الذي لا يفترون يصدون الناس عن سبيل الله حتى في رمضان، بما يبثونه من برامج مُلهية، ومسلسلات هدامة.
وقد كان السلف الصالح يتركون التدريس في رمضان ليتفرغوا للصيام والقيام والذكر وقراءة القرآن، فكيف بمن يشتغل عن هذه الوظائف الأربع الأساسية وينصرف إلى اللهو والعبث؟!
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال
(إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب لعالمين.