إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من دلائل ربوبية الله على خلقه أنه اختار أزمنة فعظمها على غيرها، ومن ذلك شهرُ الله المحرّم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

فقوله تعالى

(فلا تظلموا فيهن أنفسكم)

أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها

قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (فلا تظلموا فيهن أنفسكم): في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراما، وعظّم حرماتِـهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. انتهى.

وقال قتادة في قوله (فلا تظلمـوا فيهن أنفسكم): إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووِزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء.

وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظِّموا ما عظّم الله، فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير رحمه الله.

وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

.. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلَاثةٌ مُتَوَالِيَاتٌ؛ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. 

وسُـمِّي شهر المحرم بذلك لكونه شهرا محرما، تأكيدا لتحريمه وتعظيمه.

وسُـمِّي رجبُ مُضَر بذلك لأن قبيلة مُضَر كانت لا تُغَيِّـــره، بل تُوقعُه في وقته، بخلاف باقي العرب الذين كانوا يُـــغــــيِّرون ويبدلون في الشهور بحسب حالة الحرب عندهم، وهو المعروف بالنَّسِيء.

فينبغي مراعاة حرمة هذه الأشهر لما خصها الله به من المنزلة، ومن ذلك تحريم ابتداء القتال فيها، والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام فيها.

• أيها المسلمون، وقد ثبت فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم،

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ. 

وفي إضافة شهر محرم إلى الله في قوله: (شهر الله المحرم) تنبيه على تعظيمه. 

• معاشر المؤمنين، إن من دلائل ربوبية الله على خلقه أنه اختار أياما فعظم عباداتٍ فيها على غيرها، ومن ذلك يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرم من السنة الهجرية بالتقويم الإسلامي، وتعظيم هذا اليوم له مناسبة لطيفة، فإنه لما أنجى الله نبيه موسى عليه الصلاة والسلام من الغرق، وأغرق فرعونَ وقومه؛ صام موسى عليه السلام يومَ العاشر من محرم شكراً لله على هذه النعمة، ثم صامه أهل الكتاب أيضا – وهم اليهود والنصارى -، ثم تلقته عرب الجاهلية الذين كانوا يعـــبدون الأصنام وليسوا من أهل الكتاب، فكانت قبيلة قريشٌ في مكة تصــــــومُه في جاهليتها، ثم لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينةَ مهاجراً؛ وجد اليهود صِيامًا يوم عاشوراء فسألهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: (هذا يومٌ عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّقَ فرعونَ وقومه)، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم)، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. 

بل كانت اليهود تتخذ ذلك اليوم عيدا، ويُلبِسون نساءهم فيه حُلِيَّهم وشاراتِهم.  والشارات هي اللباس الحسن الجميل.

بل قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن يوم عاشوراء كانت تُعظِّمه اليهود والنصارى. 

وقالت عائشة رضي الله عنها:

كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرِض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه.

 وقالت: كان يوما تُــسترُ فيه الكعبة.  أي يُعظمونها بوضع الستور عليها من القِماش ونحوه.

ولما فَرض الله صيام رمضان أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الـمسلمين أن من شاء أن يصوم يوم عاشوراء فله أن يصومه، ومن شاء لم يصم، بمعنى أن صيامه ليس فرضا كصيام رمضان، بل هو صوم مستحب، فمن صامه كان له الأجر الوفير بإذن الله، فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تصوم؟ فقال: ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله. صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُــكَــفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده. وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُــكَــفِّر السنة التي قبله. 

فالخطايا الصغار التي ارتكبها الإنسان في السنة الماضية فإن الله يُكَفِّرُها بصيام هذا اليوم، وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، وأما الخطايا الكبائر فإن الله يُكَفِّرُها بالتوبة الصادقة، والله ذو الفضل العظيم.

أيها المسلمون، ولما كان صيام يوم عاشوراء بهذه المثابة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على صيامه، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صيام يوم فضَّــلَه الله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر، شهر رمضان. 

وقد كان طائفة من السلف الصالح يصومون عاشوراء حتى فـي الـسـفــر خشية فواته، قال ابن رجب رحمه الله: 

وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر، منهم ابن عباس، وأبو إسحاق السَّبيعي، والـزهـري، وقال : "إن رمضان له عِدَّة من أيام أخر، وإن عاشوراء يفوت" . ونص أحمد على أنه يُصام عاشوراء في السفر. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله. 

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُصوِّمون صبيانهم يوم عاشوراء تعويداً لهم على الصوم، فعن الــــرُّبَـــــيِّــــــع بنت مُـــــعَـــــوِّذ رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء – أي في الصبح - إلى قرى الأنصار: (من أصبح مفطراً فليُــتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم).

قالت: فكنا نصومُه بعدُ، ونُـــــصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللُّعبة من العِهن ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.  أي حتى يأتي وقت الإفطار.

عباد الله، ومن سُنن صيام يوم عاشوراء صوم يوم التاسع معه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع) ، يعني لئن بقيت إلى العام الـمقبل ولم أمُت لأصومَنَّ التاسع مع العاشر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم توفي قبل أن يدرك عاشوراء من السنة المقبلة.

أيها الناس، وعلة تشريع صيام يوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه المسلمون باليهود في صيامهم، فقد كان اليهود يصومون العاشر، فكَرِه النبي صلى الله عليه وسلم التشبه بهم في عباداتهم، فأرشد إلى صيام اليوم التاسع مع العاشر لتنتفي المشابهة، وهذا من خصائص الشريعة الإسلامية، أن يتميز أتباعها في عباداتهم عن غيرهم من أصحاب الملل الأخرى.

فإن قيل: هل يجوز إفراد صيام عاشوراء؟ فالجواب نعم، لكن الأفضل صيام يوم قبله، وهي السُنَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فيا أيها المسلمون، إن الله خلق الأيام والليالي لحكمة عظيمة، وهي العمل، فلم يخلقها عبثا ولا سدى،

قال تعالى

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورا)،

وقال تعالى عن نفسه

(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)

وروى الترمذي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا

تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ. 

‏أيها المؤمنون، إننا في هذه الأيام نودع عاماً شهيداً، ونستقبل عاماً جديداً، فيا ليت شعري ماذا أودعنا من الأعمال في عامنا الماضي؟ وماذا نستقبل من الأعمال في العام الجديد؟ فالأعوام تمضي سريعا، فهذا عام قد انقضى كأنه يوم بل كأنه ساعة، فلنحاسب أنفسنا، كم استغلينا أوقاته فيم يقرب إلى الجنة ويباعد من النار؟ كم سارعنا لطاعة الله تعالى؟ وكم صلينا وصمنا فيه من النوافل؟ كم تصدقنا فيه؟ كم ذكرنا الله تعالى فيه؟ كم بكَّرنا إلى المساجد؟ وهل تجنبنا المعاصي والسيئات؟ هل غضضنا أبصارنا عن النظر للمحرمات، وحفظنا ألسنتنا عن الغيبة والكلام الباطل؟ هل طهرنا قلوبنا من الغل والحقد والحسد؟ هل أصلحنا علاقاتنا مع جيراننا وأرحامنا وخدمَنا؟ وكم أمرنا نسائنا وبناتنا بالحجاب والستر والحياء والحذر من التبرج والاختلاط؟

أيها الناس، إن انقضاء عام وابتداء آخر يوجب ثلاثة أمور: الأول شكر الله على فسحة الأجل، والثاني: محاسبة النفس على ما مضى، والثالث تقويمُ النفس وتصحيحُها لما بقي، رُوِي عن عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا) ، فالعمل العمل أيها المسلمون، العمل العمل، قبل حلول الأجل.

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى أمركم بأمر عظيم فقال

(إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(إن من خير أيامكم يومَ الجمعة، فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. 

اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسائر الأسقام. 

اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. 

عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.