(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين،
قال تعالى
فاتقوا الله تعالى واحذروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله يخلق ما يشاء ويختار، بحسب ما تقتضيه حكمته جل وعلا، ففضَّل بعض الملائكة على بعض، وفضَّل بعض الكتب على بعض، وفضَّل بعض النبيين على بعض، وفضَّل بعض الأمكنة على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض، ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على باقي الشهور، وهذا من رحمة الله بعباده، أن هيأ لهم مواسم الخيرات، تُضاعف فيها الحسنات، وتُــــكفَّر فيها السيئات، وترفع فيها درجات المؤمن في الجنات.
عباد الله، إن صوم رمضان له ثلاثون خصيصة، فمن خصائصه:
1. أنه الركن الرابع من أركان الإسلام،
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بُني الإسلام على خـمس، شهادة أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان.
2. ومن خصائص الصيام أنه مشروع في الشرائع التي سبقت الإسلام، فدل ذلك على عِظَم مكانته،
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).
3. ومن خصائص الصيام أن الله أضافه إلى نفسه، فدل ذلك على عِظم قدره بين العبادات،
فعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّه: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ...
عباد الله، وإضافة الله لعبادة الصوم إلى نفسه من بين سائر العبادات يدل على تشريفه ومحبته، وذلك لظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه، لأنه سِـــرٌ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله، فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ، لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ.
4. ومن خصائص صوم رمضان أن الله أضاف جزاءه إلى نفسه فقال: (وأَنَا أجْزي به)، فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ من غير اعتبَار عَددٍ كغيره من الأعمال الصالحة، فلم يقل إن جزاء الصوم بعشر أمثاله مثلا، بل أطلق الجزاء، فدل ذلك على عِظَمِه، وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها.
5. ومن خصائص الصوم أنه تجتمع فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، الصبْرٌ على طاعةِ الله، والصبرٌ عن مَحارِم الله، والصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، وبهذا يتحقق في الصائمُ أن يكون من الصابِرِين الذين قال الله فيهم،
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
6. ومن خصائص الصوم أن الله أعد لأهل الصيام بابا في الجنة لا يدخل منه أحدٌ سواهم،
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِـــق فلم يدخل منه أحد.
7. ومن خصائص الصوم أنه جُــــنَّـــة (أي وقاية) من النار،
فعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصيام جُنة من النار، كجُنة أحدكم من القتال.
8. ومن خصائص شهر رمضان أن من صامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه،
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال:
آمين، آمين، آمين. قيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت (آمين، آمين، آمين)! فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: (من أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين)، فقلت: آمين.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِر.
9. ومن خصائص صوم رمضان تيسيره على المسلمين، فإن الصائم إذا شعر بأن المجتمع حوله كله صائم؛ فإن هذا مما ييسر الصوم عليه وينشطه للقيام بهذه العبادة.
10. ومن خصائص الصوم ما اختصه الله فيه للصائم من إجابة الدعاء، والدليل على هذا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ثلاث دعوات لا ترد؛ دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ثلاثة لا يُرد دعاؤهم: الإمام العادل، والصائم حتى يُفطر، ودعوة المظلوم.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصوم رمضان على الوجه الذي يرضيه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
11. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من خصائص شهر رمضان أن من قامه إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
مَنْ قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
12. ومن خصائص شهر رمضان ما يترتب على قيامه من عظيم الثواب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
13. ومن خصائص شهر رمضان أنه شهر تستحب فيه الصدقة،
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَان.
14. ومن خصائص شهر رمضان مضاعفة أجر العمرة فيه،
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار:
إذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حِجَّة.
15. ومن خصائص شهر رمضان أن لله عتقاء من النار في كل ليلة منه،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي منادٍ: (يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ)، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَة.
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَة.
وبعد عباد الله، فهذه خمسة عشر خصيصة من خصائص شهر رمضان، ينبغي للمسلم أن يعلمها ويستحضرها خلال صومه، لتعينه على الصوم إيمانا واحتسابا، وفي الخطبة القادمة نستكمل الخمسة عشر خصيصة الأخرى بإذن الله.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال
(إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.